-->

علاقة الجدل بالمناظرة ومشروعيته من الكتاب والسنة

الجدل

 علاقة الجدل بالمناظرة 


تختلف المناظرة عن الجدل من حيث الاشتقاق اللغوي - كما بينا - اختلافا بيّنا، فالأول من مادة{ن ظر} التي تفيد في الحدسيات الرؤية والإبصار ، وفي العقليات التبصر والتدبر. أما الجدل فأصول معانيه اللغوية بعيدة عن هذا، لأن مآخذها تدور بين معاني الفتل والإحكام والشدة والصرع.


اما اصطلاحا فالأمر محل خلاف بين أهل العلم؛ فقد ذهب بعضهم إلى أن (  الجدل غير  ( المناظرة )؛ لأن الأصل في الإطلاق القرآني للفظة الجدل هو الذم، فيحمل لفظ الجدل على ما يشعر بالمنازعة في الرأي، والشدة في الكلام، واللدد في الخصومة بين المتنازعين، ولا يصرف إلى غير هذا الأصل إلا بدليل، وذل بان يقيد مطلق الجدل بما يفيد الرفق والتلطف والحكمة والتروي والمؤانسة . . . ونحو ذلك من المعاني اللطيفة التي تناسب قول ال له تعال { التي هي أحسن} وعلى هذا، يكون الأصل في الجدل الذم،

وذهب أبو المعالي الجويني (ت478ه) وكثير من المتقدمين إلى حصول الترادف بين الجدل والمناظرة في الاصطلاح، فقصروا الخلاف بين اللفظين على جانب اللغة، يقول الجويني:" لا فرق بين المناظرة والجدل في عرف العلماء بالأصول والفروع، وإن فرق بين الجدل والمناظرة على طريق اللغة "


ويفهم من تعريف لأبي الوليد الباجي (ت474ه) - السابق ذكره- للجدل أنه يرادف بينه وبين المناظرة، لأنه لم يُدخل في تعريفه ما يومئ إلى مادة الخصومة والمنازعة والشدة، فتأمله. وكذلك هو حال تعريف ابن البناء المراكشي (ت 721ه) للجدل؛ حيث قال:" الجدل قانون نظري يتبين به سبيل الهدي عن سبيل الضلال"


ومما يعضد اختيار الجويني والباجي وابن البناء ومن ذهب مذهبهم: استعمال لفظ الجدل مرادفا للحوار في كتاب الله تعالي، ومن ذلك قوله سبحانه {قذ سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يستمع تحاوركما إن الله سميع بصير} - المجادلة:1 -
علاقة الجدل بعلمي الفقه والأصول.


لما كان المقصود من الجدل إظهار قوة حجج المناظرة، وإظهار ضعف حجج خصمه، فإن صاحبه لابد أن يكون قد حصل من الفقه ما يكفيه، ومن علم الأصول ما. يغنيه، لأن إحاطته بهما أحد شروط صحة المناظرة منه؛ بل المناظر يحتاج قدرا زائدا على منتهي العلمين، يقول أبو حامد الغزالي:" وكم من عالم وفر حظه من الأصول على معنى أنه أحاط بمأخذ الأدلة، وظهر تقمه في الفقه، إذ أحاط بأحكام الشريعة وتفاصيلها، وإذا متحن في مقام المناظرة وموقف المجادلة لم يصبر حق الصبر، ولم يحسن الوفاء به على الشرط، فاتضح به أن مقصود الجدل زائد على الفنين، أعني الفقه واصوه .


وفائدته إذا التحديق في استعمال الأدلة، في إيرادها على رسم النظر، فكان الأصول هي الأدلة، والفقه هو الأحكام والجدل رابطة الأدلة بالمدلول، كالمتوسط بينهما والمؤلف لأحدهما على الآخر .



المناظرة إذا أصل الأصول، وخذيمة الفقه، وأبهة النظار، بها يماز الحق من الباطل، والصلاح من الفساد.

حكم الجدل الوارد في القرآن والسنة :

وقد ورد لفظ الجدل في القرآن الكريم تسعة وعشرين مرة كلها في سياق الذم إلا في ثلاثة مواضع :


  1. سورة النحل (ادع إلى سبيل ربك بالموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) .
  2. ( وفي سورة العنكبوت )(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).
  3.  ( وفي سورة المجادلة )(قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها )

أما بقية المواضع فإما أن تكون في سياق عدم الرضا عن الجدل، وإما عدم جدواه، او افتقاده واحد - أكثر- من شروطه الأساسة.
أما في السنة فقد بوب الأئمة رحمهم ال له في كتبهم بما يدل على کراهية الجدل، إذا إن الأصل في وروده الخصومة والشدة، فمن ذلك ما بوبه الإمام أبو داود في سننه قال: باب النهي عن الجدل في القرآن، وذكر قول النبي ( المراء في القران كفر)، وكذا ابن ماجه: باب اجتناب البدع والجدل، وذكر حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي م قال: (يا عائشة إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عناهم ال له فاحذروهم) ، ثم قرأ الآية: (بل هم خصمون).


على أنه وردت نصوص أخرى أطلقت فيها المجادلة على المحاورة، ومن ذلك قوله تعالى:  )(قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها )  فأطلق الجدال والحوار على شيء واحد وهو مراجعة الكلام بين النبي وخولة بنت ثعلبة رضي الله عنها، ومثله قول النبي (ما مجادلة
أحدكم في الحق يكون له في الدنيا مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار)، رواه النسائي، فبين الحديث أن المجادلة قد تكون في الحق وهي عندئذ غير مذمومة.


والخلاصة أن الجدل لم يؤمر به ولم يمدح في الكتاب أو السنة وإنما الممدوح منه ما قيد بالحسني، كما في قوله تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن)، وقوله تعالى:(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي أحسن) وأن الأصل في الجدل أنه مذموم ما لم يقيد.
مشروعية الجدل. حكم تعلم فن الجدال.

هو آن صاحب الشريعة – صلوات ربي وسلامه عليه - حين أذن لحملة هذا العلم في الاجتهاد أذن لهم في الاختلاف، لأنه كما أمل اتفاقهم جوز - على البينات - اختلافهم، وجماع هذا الأمر تجده في حديث عمرو بن العاص المشهور - بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي - أنه سمع رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: {إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.}
وثمة وجه آخر للاحتجاج على مشروعية الجدل، وهو في أم الكتاب مسطور، أليس ربنا الذي نبهنا إلى أن رفع الاختلاف أو تقليله ينبغي أن يكون بالرد إلى أصل الوحي - كتابا وسنة -{ فإن تنازعتم في شيء فرده إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الأخر}فهذا الرد يستلزم حصول المناظرة، وبیان ذلك أن " الكتاب والسنة منهما المجمل والمُتشابه، ونحوهما مما هو مظنة إيقاع الخلف، بين الناس، وإنما يتوصل إلى كشف ذلك اللبس بتقرير الحجج المستعمل بقوانين الجدل ...


ومن النصوص العتيقة النفيسة في هذا الباب، قول إمام الحرمين أبي المعالي الجويني:" فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة مقصورة، ومواقع الإجماع معدودة مأثورة ،فما ينقل منهما تواترا فهو المستند إلى القطع، وهو معوز قليل، وما ينقله الأحاد عن علماء الأمصار ينزل منزلة أخبار الأحاد، وهي على الجملة متناهية ونحن نعلم قطعا أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها فلزم حصول المناظرة؛ إظهار الحق، وإبطالا للباطل، قال سيف الدين الآدمي (ت 631 ه ) هذا الفن لا شك في استحباب تحصيل، وإنما الشك في وجوبه وجوبا كفائي ، فمن قال بوجوب معرفة مجادلات الفرق على الكفاية قال بوجوب التحصيل ، لان الفن يعرف بكيفية المجادلة والا فلا .


وقال منا زاده تعليقا عليه واعلم انه ذهب بعض الى معرفة مجادلات الفرق الضالة ليجادلهم فرض كفاية لقوله تعالى : (وجادلهم بالتي هي احسن) . ولأنها دفع الضر عن المسلمين ، اذ يخلف ان يقعوا في اعتقاداتهم المضرة ، وذا فررض كفاية على من لم يكن مظنة الوقوع فيه ، وفرض عين على من كان كذللك .